كثيراً ما سُئلنا هذا السؤال اللطيف: أنتم تعتمدون على مترجمين مختلفين، فكيف استطعتم المحافظةَ على أسلوب أدبي موحّد و”هُويّة أدبية” عامة في كل المنشورات التي نشرتموها حتى اليوم؟
يسرنا أن نُطْلع قرّاءنا الأعزاء على السر. عندما أطلقنا مشروع “الأجيال” وبدأنا بترجمة الروايات إلى اللغة العربية اقتبسنا من عالم النشر الأجنبي واحدةً من خصائصه التي لا يعرفها عالَمُ النشر العربي، وهي “التحرير”. فالمؤلف العربي معتاد على نشر كتابته كما يكتبها بقلمه ولا يستعين بأحد لمراجعة النص، وحتى في الحالات التي يُستعان فيها بمصحح أو مراجع فإنما يقتصر دوره على تصحيح الأخطاء النحوية وتصويب الغلطات الطباعية فحسب. ولا ريب أن في كتّابنا العرب قامات سامقة ونماذجَ عاليةً في البيان، ولكن كثيرين منهم يملكون المعلومات والأفكار ولا يملكون المستوى العالي في التعبير، ومن ثَمّ تأتي كتاباتُهم في مراتب متوسطة من جودة الأسلوب، أو هي دون الوسط في بعض الأحيان، حتى لو كانت ثريّة بالمحتوى المعرفي.
أما المؤلفون الأجانب فقد أدركوا منذ وقت طويل أن المؤلف الذي يملك الفكرة والمعلومة لا يملك القدرة الكاملة على التعبير عنهما بالضرورة، فنشأت في عالم النشر الأجنبي طبقة وسيطة بين المؤلفين والقراء، هي طبقة المحررين. ولعل كثيراً من قرائنا المتمرسين الذين يقرؤون كتباً وروايات أجنبية يعرفون “صفحة الشكر” التي يخصصها المؤلف في أول كتابه لشكر كل من مَدّ له يد المساعدة في إخراجه إلى الوجود، وعلى رأسهم “محرّره العزيز” أو “محررته العزيزة”. فما الذي يصنعه المحررون؟ إنهم لا يغيرون المحتوى نفسَه بالتأكيد، ولكنهم يصححون الأخطاء النحوية والمطبعية، ويهتمون بضبط علامات الترقيم، ويغيّرون تقسيم النص إلى جُمَل وفقرات، ويعيدون سبك النص كله ليصبح أفصحَ وأعلى بياناً ويخلو من العيوب الأسلوبية ومن مشكلات الكتابة الشائعة.
ولأن “الحكمة ضالّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ بها” (وهو قول حكيم وإن لم يثبت بنصّه عن النبي عليه الصلاة والسلام) فقد اقتبسنا هذا الأسلوب وطبقناه في “الأجيال”، فكان “رئيس التحرير” هو أول من دخل إلى المؤسسة، قبل المترجمين وقبل فريق التحرير والتدقيق، وما يزال هو نفسُه على رأس العمل التحريري في الدار حتى اليوم، ولم يحصل قَطّ أن نشرنا أي كتاب إلا بعد خضوعه لتحريره الشامل الذي يمنحه هويتنا الأدبية المتميزة.