شهادتي بدار الأجيال مجروحة فأنا أقرأ لهم منذ أن بدأوا بالترجمة منذ أكثر من عشرين عاماً ولا زال موقع الأجيال موجوداً في مفضلتي منذ أن دخلته لأول مرة باسم العنقاء وكنت أقوم بزيارته بين الحين والآخر لعلي أجد منهم خبراً يسعدني. وها أنا اليوم أخيراً وبعد انتظار أكثر من عشر سنوات أحمل بين يدي أحدث إصداراتها.

لماذا قائمة منشوراتكم صغيرة رغم أنكم تنشرون منذ سنة 2000؟

نحن دار نشر صغيرة، وقد رضينا بحجمنا المتواضع لأننا وجدناه الحل الوحيد للمحافظة على الجودة، فقد كنا دائماً أمام اختيار صعب: وفرة الإنتاج مع التهاون في المعايير، أو الاقتصار على القليل مع إفراغ الجهد الكامل فيه بحيث يستحق اسم “الأجيال” على غلافه ويستحق ما يُدفَع فيه من مال لاقتنائه ومن وقت لقراءته. وكان أن اخترنا القليل الجيد على الضحل الكثير.

لماذا اخترتم نشر روايات أغاثا كريستي وقصص شيرلوك هولمز؟

اخترنا نشر روايات أغاثا كريستي لتكون باكورة منشوراتنا لأنها أشهر مَن كتب قصص الجريمة في القرن العشرين وفي سائر العصور، وهي أعظم مؤلفة في التاريخ من حيثُ انتشار كتبها، فقد تُرجمت رواياتها إلى معظم اللغات الحية وزاد عدد ما طُبع منها على ألفَي مليون نسخة.
أما شيرلوك هولمز فإنه أشهر الشخصيات الخيالية في التاريخ، بل إنه يكاد يفوق في شهرته كثيراً من مشاهير العالم الحقيقيين. وقد بلغ من شهرة هذه الشخصية أنها فاقت شهرةَ مبتكرها السير آرثر كونان دويل، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن عنوان بيته (شارع بيكر، 221ب) هو أشهر عنوان في العصر الحديث!

لماذا غامرتم بترجمة روايات أغاثا كريستي مع أن السوق غارق بطبعات مختلفة من هذه الروايات؟

مع أن الجواب يبدو جلياً في أثر ترجمة دار الأجيال الكاملة (التي غيّرت نظرة القارئ العربي لأدب أغاثا كريستي الرفيع) إلا أننا سنضع هنا النص الكامل لفقرة “لماذا هذه الطبعة؟” التي حرصنا على إثباتها في مطلع بعض رواياتنا منذ الطبعة الأولى التي صدرت عام 1999:
عندما أعلنّا -في مؤسسة الأجيال للترجمة والنشر- عن عزمنا على تقديم ترجمة جديدة لأعمال الروائية الفَذّة، أغاثا كريستي، تساءل كثيرون باستغراب: لماذا تُجهدون أنفسكم وتتكلفون كثيراً من الجهد والعناء وكثيراً من المال لإعادة ترجمة هذه الروايات التي تُرجمت إلى اللغة العربية من قديم وتداولها الناس لعشرات السنين؟
ولكن الحقيقة (التي ربما بدت غريبة) أن الترجمة القديمة ذاتها هي الجواب عن هذا السؤال، إذ إن فيها من الأخطاء والنقائص ما لا يصلح معه الحال أو يستقيم بغير إعادة الترجمة وإعداد طبعة جديدة. وأول تلك النقائص (وإن بدت غيرَ ذات أهمية للقارئ العربي ظاهراً) أن أياً من الترجمات القديمة لم تكن “شرعية” بالمعنى القانوني، أي أن الذين نفّذوها ونشروها لم يحصلوا على الإذن بطباعتها ولم يدفعوا شيئاً مقابل حقوق النشر، ومن ثَمّ لم يهتموا بتجويدها أو إتقانها بقدر ما اهتموا بالربح العاجل والكسب السريع.
من هنا جاءت تلك الطبعات القديمة حافلة بالعيوب، حتى لا يكاد يصحُّ لمن قرأها أن يقول إنه -فعلاً- قرأ شيئاً من كتابات أغاثا كريستي. وإليكم جملة من تلك العيوب:
(1) في الترجمة نقص واسع وحذف كثير، يكاد يذهب -في بعض الأحيان- بثلث النص الأصلي. وما ندري ما الذي حمل المترجمين الأوائل على اقتراف هذا الخطأ المتعمَّد: أهو لتقليص حجم الروايات وتوفير نفقات الطباعة على الناشر، أم لتيسير القراءة على القارئ حتى لا يَمَلّ من قراءة رواية طويلة؟ ولكنْ مَن قال إن قراءة ما حُذف يبعث على الملل؟ الحقيقة أن ما وقع من حذف وتقليص واختصار قد أربك القارئ إذ غيَّبَ عنه بعض التفصيلات المهمة، كما فوّتَ عليه الاستمتاع بكثير من “اللمسات الساحرة” من الأدب الفذّ لأغاثا كريستي.
(2) في الترجمات القديمة أخطاء كثيرة لأنها -بجملتها- نتاج عمل فردي متسرع هدفه الربح العاجل كما أسلفنا، وهذه الأخطاء (وكثيرٌ منها ساذج مضحك) أفسدت استمتاع القارئ بمتابعة القصة وكانت -أحياناً- عقبةً في طريق فهمه لحَبْكَة الأحداث وعقدة الرواية.
(3) فضلاً عن أخطاء الترجمة، حفلت تلك الطبعات القديمة بما لا يكاد يُحصى من الأخطاء النحوية واللغوية والإملائية وجاءت على غير نَسَقٍ في طبيعة ترجمتها وأسلوب كتابتها، حتى لتجد أن اسْمَي بَطَلَي أغاثا الشهيرَين، هيركيول بوارو والكابتن هيسْتِنْغْز، قد كُتبا بأشكال متنوعة وصور متباينة خلال الروايات، وكأنهما مجموعة من الأشخاص المختلفين!
(4) أما الطباعة فمأساة لا تقلّ حجماً عن مأساة الترجمة وتكاد تنافسها في السوء والرداءة! امتلأت الروايات بالأخطاء المطبعية التي لم يحفل بتصحيحها أحد، وصُفَّت أسوأَ صف ثم طُبعت على أسوأ ورق. وما زال أولئك “الناشرون…” يصوّرون طبعة عن طبعة حتى صارت مقاطعُ كاملةٌ منها مطموسةً مستعصيةً على القراءة لا تكاد تَبين حروفها وألفاظها.
(5) ثم اجتهد أولئك الناشرون فوضعوا لهذه الروايات أغلفة يظنّ معها من يراها أنها ليست سوى قصص فاضحة ماجنة، فكان أن أعرض عنها كثير من الناس الذين ظنوا أن صور أغلفتها تعبّر عن محتواها، وزهد في هذا الأدب الرفيع كثيرٌ من المتأدبّين.
(6) وأباح هؤلاء “المترجمون” لأنفسهم أن يتدخلوا في عناوين الروايات وتبويبها وترتيبها؛ فمسخوا العناوين الأصلية واستبدلوا بها ما ظنّوه أكثر إثارة أو أدعى لجذب القرّاء. واعتدوا على تبويب الروايات فأدخلوا بعض فصولها في بعض، وعلى ترتيب مجموعات القصص القصيرة فبعثروا ما كان منتظماً وشتتوا ما كان مجتمِعاً. كل ذلك بغير سبب واضح ولا تعليل مفهوم.
(7) وأخيراً، كان العدوان الأكبر على أغاثا كريستي بأن نحلوا لها ما ليس -أصلاً- من كتابتها. وذلك أن الناشرين لمّا رأوا إقبال الناس على ما حمل اسمها قد طمعوا في مزيد من البيع ومزيد من الربح، فجاؤوا بروايات لا يُعرَف مؤلفوها فألحقوها بها ونسبوها إليها، حتى بلغ ما نُشر في السوق باسمها مئة وبضع عشرة رواية، رغم أن كل ما كتبته من روايات بوليسية (وهي لها كتابات أخرى لم تُترجَم بَعدُ إلى العربية، كما سيأتي في ترجمتها الموجزة) ليست سوى ثمانين رواية لا غير!
فما الذي فعلناه نحن؟
اتصلنا بأصحاب الحقوق (ورثة المؤلفة) فعقدنا معهم اتفاقاً ووقّعنا عقداً ينصّ على الحقّ الحصري لنا بالطبعة العربية عبر العالم، ودفعنا مبلغاً كبيراً من المال مقابل هذا الاتفاق. بعد ذلك بدأنا بمشوار الترجمة الطويل الذي استغرق أكثر من عشر سنوات من العمل الشاق الدؤوب، المتعب والممتع في آنٍ معاً، ونفذّنا العمل بالأسلوب التالي:
(1) الترجمة على مرحلتين: يُترجَم العمل -أولاً- بالكامل، ثم يُراجَع مراجعة كاملة شاملة وكأنه ترجمة جديدة يقوم بها مترجم آخر. وكلا العملين تولاه مترجمون محترفون أصحاب خبرة وكفاية ودراية واسعة باللغتين، العربية والإنكليزية.
(2) التحرير: وفي هذه المرحلة أُخضعت الترجمات لمراجعة كاملة دقيقة لكل نص مترجَم؛ أسلوبياً ولغوياً ونحوياً وإملائياً، مع العناية بالتفقير والترقيم (وضع العلامات من نقطة وفاصلة وسواهما). وتولّى هذا العملَ واحدٌ من أفضل المختصين في هذا المجال.
(3) الصفّ والإخراج: وقد نُفِّذ هذا العمل لدى أفضل مراكز الصف، وبُذل في الإخراج من الجهد غايته ليأتي على أفضل شكل ممكن. وكان أن وقع الاختيار على قَطْع الكتاب بالشكل الذي يجده القارئ بين يديه بعد استقراءٍ لميولِ كثير من القرّاء وُجد فيه أن الغالبية منهم يفضّلون -للروايات- هذا الحجم مقابل الحجم الكبير للكتب العلمية وكتب التراث.
(4) ثم كانت المراجَعة بعد المراجَعة للنصّ النهائي المصفوف للتأكد من سلامته من أي خطأ أو سهو. كل ذلك ابتغاءَ الوصول إلى غاية الاتقان والحصول على أفضل عمل ممكن يطيقه الجهد البشري.
نعم، نحن لم نحقق كتباً عظيمة من كتب العلم ولم نترجم أعظم روائع الأدب العالمي، ولكن المرء مطالَبٌ -إذا عمل- بأن يتقن عمله؛ تلك واحدة من وصايا الشرع. ثم إن في أدب أغاثا كريستي من الجمال والرقيّ ما يستحق السعيَ إلى مثله -إذ يُترجَم- في النص المُعرَّب.
وأخيراً، فإن القارئ العربي الذي سيدفع قيمة هذه الكتب مالاً من جيبه ثم يصرف لقراءتها ساعات من وقته جديرٌ بالحصول على الأفضل. وهذا هو بالذات ما سعينا إليه في نهاية المطاف. فهل وُفِّقنا؟ نرجو أن نكون، وأنت -عزيزَنا القارئ- خيرُ حَكَم.

ما هو العمر المناسب الذي يستطيع القارئ فيه استيعابَ رواياتنا والاستمتاع بقراءتها؟

إن رأينا الذي بنيناه على تجارب كثيرة مع شبان وشابات في أعمار مبكرة هو أن قصص شيرلوك هولمز تصبح مناسبة للقراءة منذ أواخر المرحلة الابتدائية، وروايات أغاثا كريستي من أواخر المرحلة المتوسطة، فمَن قرأها قبل ذلك قد لا يستوعبها الاستيعابَ الكامل ولا يستمتع بقراءتها تماماً.
مع ملاحظة أن بعض الفتيان والفتيات قرؤوا روايات لأغاثا وهم في أول المرحلة المتوسطة (في الثانية عشرة والثالثة عشرة تقريباً) وفهموها واستمتعوا بها، ولكن القاعدة العامة أن الاستيعاب الجيد والتفاعل والاستمتاع الكامل قد لا يتأتى إلا من الرابعة عشرة والخامسة عشرة وصاعداً.
ولا عمرَ أعلى لقراءة هذه القصص والروايات، فمحبّو وقرّاء أغاثا كريستي وشيرلوك هولمز حول العالم ينتمون لكل الأعمار.

هل يصلح الكتاب هدية في أي مناسبة؟

نحن نعتقد أن الكتاب هدية جميلة تصلح في كل المناسبات ونظن أنه أعظم الهدايا على الإطلاق. لا نقول ذلك لأننا نعمل في مجال الكتب، بل لعل العكس هو الصحيح، فنحن لم نختر العمل في عالم النشر والكتاب إلا لأننا نحبه ولأننا مقتنعون بأنه أجمل العوالم وأرقى الأعمال.
ثم إن الهدايا الشائعة نوعان: نوع يبقى لوقت طويل ولكنه لا يكاد يُستفاد منه، كالمعروضات الفنية التي توضع على الطاولات، ونوع يستفاد منه ولكنه يزول في الوقت القصير، كالعطور التي تفرغ قواريرها سريعاً والورود التي تذبل وتموت. أما الكتاب فإنه يجمع الخيرين، فإنه يفيد من يقرؤه في يومه، ويبقى ويدوم لسنوات طويلة فيستفيد من قراءته العددُ الكبير من الناس.