كثيراً ما يسألنا أصدقاؤنا القراء هذا السؤالَ اللطيف. ونحن نحب هذا النوع من الأسئلة لأنه يدل على أشخاص مثقفين يشاركوننا عالمَنا وعملنا واهتمامنا، ويسرنا أن نقدم جواباً وافياً يساعد المترجمين المبتدئين ليصبحوا من القامات الكبيرة في عالم الترجمة بإذن الله.
ابتداءً اسمحوا لنا أن نعدّل صيغة السؤال ليصبح هكذا: كيف أستطيع أن أنمّي موهبة الترجمة وكيف أصقل مهارتي فيها؟
هنا، في هذا السؤال، لدينا كلمتان مفتاحيتان: “الموهبة” و”المهارة”. الموهبة أولاً، لأن الترجمة هي -في جوهرها- “إعادة إنشاء” النص الذي كتُب بلغة المنشئ الأصلي بحيث يصبح مكتوباً بلغة المنشئ الجديد. وكما يعلم كل من درس في المدارس فإن “الإنشاء” هو القدرة على التعبير بالكلمات، والناس ليسوا سواء في هذه القدرة لأنها “موهبة”، أي أنها في أصلها استعدادٌ خَلْقيّ يتفاوت فيه الناس، ولكن الخبر الجيد هنا هو أن المرء يستطيع تنمية قدرته على التعبير كما ينمي أي “مهارة كَسْبيّة”، فهي تنمو وتنصقل بالممارسة والمِران.
بعد هذه المقدمة ننتقل إلى الأدوات التي يحتاج المترجم إليها ليصبح مترجماً جيداً، وهي ثلاثة: (1) التمكّن من اللغة الأجنبية التي سينقل النص منها والدرايةُ الواسعة بها. (2) التمكّن من اللغة الأم التي سينقل النصَّ إليها والدرايةُ الواسعة بها. (2) الثقافة العامة التي تغطي مجالاً واسعاً من المعارف والعلوم.
إن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه كثير من المترجمين هو ظنهم أن تمكّنهم من اللغة الأجنبية التي ينقلون النصوصَ منها كافٍ تماماً لجعلهم مترجمين بارعين. وهذا وَهْمٌ كبير، فما أكثرَ الكتب التي ترجمها من لغاتها الأصلية مترجمون حاذقون بتلك اللغات، إلا أن ضعفهم بلغتهم الأم جعلها مبهَمة عسيرةَ القراءة عصيّة على الفهم وزهّد فيها القراء. وكم من مترجم ضليع باللغتين ولكن ثقافته العامة ضحلة، فهو يَضيع في المعاني الخفيّة والإشارات والدلالات المرتبطة بالثقافات الأخرى أو بالعلوم والمعارف المختلفة.
وسنقدم الآن مجموعة نصائح من شأنها مساعدة المترجم المبتدئ ليصبح من المترجمين المحترفين.
1- ابذل جهدك للتمكن من اللغة الأجنبية التي تنقل منها، وسوف يتحقق لك ذلك بالدرس المنظم لقواعد اللغة وآدابها أولاً، ثم بالإكثار من قراءة الكتب والروايات التي كُتبت بتلك اللغة. ولن تكفي قراءةُ عشرة كتب وعشر روايات، بل عشرات وعشرات وعشرات، فكلما تعمق المترجم في اللغة الأجنبية صار أكثرَ فهماً لمفرداتها وتعبيراتها وأقدرَ على الترجمة الصحيحة منها.
2- أتقِن أساسيات النحو والصرف وقَوِّ لغتك وحسِّنْ أسلوبك بقراءة الكتب الأدبية البليغة، كتب الأدب القديم والأدب المعاصر لأصحاب البيان العالي والأسلوب الرفيع. واعتنِ -بشكل خاص- بالقرآن الكريم قراءة وحفظاً لأنه أبلغ النصوص وأعلاها على الإطلاق، حتى إن بعض أهل اللغة والأدب من غير المسلمين حفظوه (كله أو بعضه) لهذا السبب، كالأب أنسطاس الكرملي والمعلم بطرس البستاني والشيخ ناصيف اليازجي وأمين الريحاني، وغيرهم كثير.
3- تعرف على كل أنواع الثقافات ووسع مداركك ومعارفك وثقافتك العامة بكثرة القراءة. اقرأ في كل مجال، في التاريخ والبلدان والأدب والشعر والإدارة والتربية وفي أبواب العلوم الإنسانية والبحتة والتطبيقية كلها، فلا بد أن تمر بك -أثناء الترجمة- نصوصٌ مبهَمة ستساعدك ثقافتك الواسعة على إدراك معانيها وتنقذك من الخطأ والاضطراب في ترجمتها.
أخيراً هذه نصيحتنا الذهبية: ترجم ثم ترجم ثم ترجم، فإن الترجمة “مهارة” تنمو بالممارسة المكثفة والمران المستمر، والطريقُ الطويل الذي يصل بين أول محطاتها الابتدائية وآخر محطاتها الاحترافية معبَّدٌ بالتجربة والتكرار.
ابدأ بترجمة نصوص قصيرة ذات أسلوب سهل، مقالات وأقاصيص، ثم انتقل منها إلى النصوص الأصعب والأطول حتى تصبح قادراً على ترجمة كتب كاملة وروايات طويلة. وكلما أنهيت ترجمة من الترجمات أعِدْ قراءتها وقيّمْها كما تقيّم الكتبَ والروايات المترجَمة التي تشتريها من المكتبات. ولا تفكر بنشر ترجماتك نشراً عاماً إلا بعد أن تتأكد من صقل مهارتك وتقوية أسلوبك، لأن اسمك سيرتبط بأعمالك المنشورة قديمها وجديدها، وسوف تكسب سمعتك الجيدة بطريقة تراكمية مع نشر الأعمال الجيدة عاماً بعد عام.
سنقدم في منشوراتنا القادمة بعض النصائح العملية التي تفيد المترجمين، مع تمنياتنا لأصدقائنا الذين اختاروا المشي في هذا الطريق بالتوفيق والنجاح الباهر.