عندما بدأنا العمل قبل خمس وعشرين سنة كنا بحاجة لمترجمين، فنشرنا إعلانات وقابلنا مئات المترجمين في عدة بلدان ووزّعنا عليهم “عيّنة ترجمة” قصيرة على سبيل الاختبار. ولم تكن العينة سهلة جداً، ولكنها لم تكن شديدة الصعوبة أيضاً، وكانت صفحتين من إحدى روايات أغاثا كريستي التي بدأنا بترجمتها في ذلك الحين.
اكتشفنا يومها أن عدداً هائلاً من المترجمين المبتدئين يعانون من آفتين أساسيتين: أولاهما الترجمة الحرفية للنصوص وترجمتُها كلمةً كلمةً بدلاً من ترجمة مضمون الكلام، وهو العيب الذي عالجناه في منشورنا السابق، وثانيهما الافتقار إلى المنطقية وترجمة النص الأجنبي بعبارات عربية ليس لها معنى واضح في كثير من الأحيان.
هذه المشكلة من أكثر آفات الترجمة شيوعاً، فكثيراً ما يقرأ القراء كتباً عربية فيمرون بجمل كاملة لا يفهمون المقصود منها ولا يدركون الغرض من حشوها في الكتاب، ويكون عُذرُ المترجم دائماً: هذا هو النص الأصلي؛ أنا لم أصنع سوى نقل كلماته من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية.
نقول له: على رِسْلك؛ إذا لم يفهم القارئ النصَّ الذي ترجمتَه فالعيب فيك وليس فيه، فالكلام إنما يُكتب ليُفهم، أي أن هدف الترجمة هو خدمة القارئ الذي سيقرأ النص المترجَم وليس خدمة كلمات النص الأصلي، ولو أن المؤلف كتب النص بلغتنا العربية لحرص على كتابته بكلمات نفهمها، وحيث إن المترجم هو “وكيل المؤلف” فهو المكلَّف بتقديم هذه الخدمة للقارئ العربي.
ما أكثرَ ما لقينا من غرائب في الترجمات التي وصلتنا في تلك الأيام، ولم تكن المعاني القاموسية للمفردات هي المشكلة، وإنما هي فهم العبارات في تركيباتها وسياقاتها، فالمترجم الحصيف هو الذي يفهم النص الأجنبي أولاً ثم ينقله إلى القارئ العربي بأسلوب عربي رصين.
الخلاصة: إن المترجم الجيد هو الذي يكتب كتابة واضحة مفهومة، ومن ثم فإن أي قارئ يستطيع الحكم على إنجاز أي مترجم بسهولة: هل فهمتَ ما قرأت؟ هل فهمته بسهولة وتلقائية أم كررت قراءته مرات وأجهدت عقلك لتفهم المقصود؟ إن كان الجواب بالإيجاب فالمترجم جيد، وإن كان غيرَ ذلك فهو مترجم رديء يحتاج لتحسين أدواته التي أوضحناها في المنشور السابق.
الخبر الجيد لأصدقائنا المترجمين المبتدئين: هذا الاختبار البسيط من أفضل وأسهل الاختبارات الذاتية التي يستطيع المرء إجراءها بنفسه. اقرؤوا النصوص التي تترجمونها وأنتم تتقمصون شخصية القارئ وانظروا: هل هي نصوص سلسلة مفهومة؟ وإن شئتم دقّة أعلى في الحكم فاستعينوا بصديق، وإذا حصلتم على تقييم فيه “فهم واستمتاع” فأنتم في الطريق الصحيح وسوف تصبحون -آجلاً أو عاجلاً- أعضاء في نادي المترجمين الأكفياء المحترفين.