سنتحدث في هذا المنشور عن “الفونطات”، وسوف نبرر -ابتداء- ضرورة استعمال هذه الكلمة المصطلَحية حتى نجد بديلاً لها، لأن “الفونط” غير “الخط”.
فأما الخطوط فيعرفها الكتّاب والخطاطون منذ أمد طويل، وقد استعمل العرب منها أولاً ما كان حادّ الزوايا قليل الاستدارة، وبما أن مركز الكتابة بهذا الخط كان مدينة الكوفة فقد نُسب إليها فسُمّي “الخط الكوفي”، وبه كُتبت المصاحف القديمة. في وقت لاحق، ومنذ بداية العصر الأيوبي تحديداً، وُلد في بلاد الشام خط نبَذَ الزوايا التقليدية الحادة وصار أقرب إلى الاستدارة، ولم يلبث أن انتشر في أكثر البلدان الإسلامية واعتمده النُّسّاخ، وسُمّي من بعد “خط النسخ”، وصار هو المعتمَد في كتابة المصاحف ونسخ الكتب.
عندما تطورت الخطوط وتنوعت اكتسبت أسماء محدّدة، الثلث والنسخ والديواني والفارسي والرقعة وغيرها، فلما وُلدت الطباعة طوّرت المطابع أشكالاً محددة للحروف اعتماداً على هذا الخط أو ذاك، فعرف عالم الطباعة عدة خطوط مشتقة من الخط الكوفي مثلاً، وكل واحد منها مُنح اسماً اصطلاحياً، وهذه الأشكال الطباعية من الخطوط تسمى فونطات (fonts). أي أن الفونط هو شكل محدد من أشكال الخط وليس هو الخطَّ نفسَه، ومن هنا قلنا إن مصطلح “الفونط” مهم وسوف نستعمله حتى نعثر على بديل أفضل.
وفي الحقيقة فإن الخطين الوحيدين اللذين أمكن توليد فونطات ناجحة منهما هما النسخ والكوفي، أما بقية الخطوط المشهورة (الفارسي والثلث والديواني والرقعة) فلم تنجح قط في أشكال الحروف المطبعية لأنها أقرب إلى الرسم ولأن لحروفها أشكالاً كثيرة تتغير بما قبلها وبما بعدها وبطبيعة رسم الكلمة وتركيب حروفها. وكل من يستعمل الكمبيوتر اليوم يعرف كثيراً من الفونطات، ولا بد أنه سيشاركنا الرأي بأن كل الأشكال المتوفرة للخط الديواني والفارسي ولخطَّي الثلث والرقعة فاشلة تماماً، وأن أشكال خط النسخ هي الأكثر نجاحاً، ولهذا السبب فإن كل الفونطات المستعمَلة في عالم النشر الاحترافي هي من هذه الفئة.
وكما تتعدد الشركات المختصة في كل عالم من عوالم الأعمال التجارية فهي كذلك في عالم النشر، وكما يوجد عمالقة في كل عالم يوجد عمالقة في هذا العالم أيضاً، ولعل أكبر عمالقة عالم النشر هي شركة “لاينوتايب” التي أدخلت مفهوم الصف الآلي إلى عالم الطباعة منذ أكثر من قرن، والتي أنشأت منذ وقت مبكر مَراسم محترفة (أستوديوهات) لتصميم ورسم الحروف، ولم يقتصر إنتاجها على الحروف اللاتينية فقط بل شمل أكثر اللغات الحية على الأرض، ومنها العربية، ورغم أن شركات أخرى أنتجت فونطات لاتينية وعربية فقد بقيت لاينوتايب هي الأعظم على الإطلاق.